وكالة الأنباء أوغادين

مسلسل من رواية – على درب الأجداد

 

 

جزء الأول

 

- 1 -

 

      انتظر جارنى (Gaarane) بفارغ الصبر حتى بلغ سن الثانية عشرة و التي عرف ببلوغها عندما أمرته أمه في ذلك الربيع بأن يقفز علي ألسنة اللهب اثنتي عشرة مرة . فكانت فرحته مضاعفة . لم يشعر بأي تعب حين قفز فوق اللهب عددا لم يهتم  بعدها أاثنتي عشرة مرة أم أكثر .

كان قد اشترط أبوه أن يبلغ هذا العمر لكي يخبره عن سبب وجوده وحيدا بدون أخ أو أخت في هذه الدنيا .. سن الرجولة ..و ها هو قد بلغها اليوم .

لم يقتنع جارنى أبدا بأن المصيبة التي حلت بالعائلة وجعلت أبوه وحيدا هي مشيئة الله كما يقول أبوه تهربا .. و كان يكره حين يناديه أحد الشيوخ و يقول للآخرين :

” .. جارنى هذا  ” وحيد  ” و أبوه كان ” وحيدا  “

.. ثم يطلب منهم أن يدعو الله بأن يرزق أبوه بنين غيره .. إذ أن أخواته البنات الست في عرف القبيلة لا وجود لهن . 

في مجتمع القبيلة لا يمكن لعائلة أن تسعد بطفل واحد .. حتى شيوخ القبيلة لا يسمحون لأحد أفرادها أن يكتفي بطفل واحد إلا لأسباب طبيعية تقهر أي رجل بحيث لا يستطيع الإنجاب .. و لكن لا يعفيه هذا حتى يبرهن للشيوخ قبل غيرهم بمحاولاته المتكررة في الزواج و سرعة تطليقه لللاتي لا تنجبن بعد سنة .

سبق جارنى أباه إلى البيت هذا اليوم و جلس على مصلاه متربعا كالرجال .. و حين سمع صوت أبيه و هو يحيى الجيران كعادته بصوت عال لينبه أهله بقدومه .. ارتبك جارنى و شعر بتسارع دقات قلبه و كأنه على وشك أن يهرب من قفصه الصدري .. تلفت حواليه و لم يجد أخواته فحمد الله .. و تمتم بكلمات غير مفهومة ليشجع نفسه ثم قال لنفسه ..

” خائف ؟ عيب يا رجل .. “

اعتدل في جلسته وتنحنح و نادى أخته بصوت حاول أن يخرجه من فمه وبه بحة كالرجال .. و لكنه لم يرض عن أدائه في المرة الأولي و اضطر إلى أن يعيد النداء مرة أخرى .. فلم يتغير شيئا .. ضحك و تساءل إن كان صوته أصغر من سنه ..

فلما دخل أباه وقف و هو يرفع صدره و يحبس الهواء في رئتيه .. قام ليريه لباسه .. إذ أخذ جبة أبيه وكوفيته و وضع عمامته على كتفه يملأ نفسه زهوا ورجولة .

فهم الأب رسالة ابنه . أخبرته زوجته أنه كان يعد الأيام .. و يعرف لماذا .

صحيح أنه شخصيا لم يمر بتلك التجربة لأن أبوه قتل قبل أن يصل عمره إلى سن الرجولة – و لكنه يعلم أن الأولاد ينتظرون ذلك اليوم الذي ينادون في مجالس الرجال وكأن عالمهم سيتغير .. وكأن عالم الرجال الذي سيدخلونه منذ هذا اليوم مختلف تماما عن عالمهم .. و لذلك كلما اقتربت سنهم يزداد شوقهم لمعرفة هذا الفرق .

لقد بلغ الولد سن المسئولية .. الآن صار رجلا من رجال القبيلة  وليس طفلا .. فلا بد أن يعلم كل شيء عن العائلة و عن القبيلة .

قال أبوه و هو يمسح على رأسه بحنان ليعفيه من الوقوف و من اضطراب تنفسه :

” من هو هذا الرجل ؟ “

شعر جارنى بالسعادة تغمر كيانه كله .. ألقى نظرة خاطفة إلى جسمه فارتاح لعضلاته  .. كان غلاما وسيما و نحيلا يهوي اللعب في الأزقة مع أصدقائه بالكرة التي يصنعها بنفسه من القماش و الورق .. و كان دائما يرأس العصابة .. و لكن ماذا سيعمل مع هذا الصوت الذي حاول أن يجعله رجوليا خشنا ولكنه فشل ؟ فكر .. ثم اقنع نفسه بأن يحاول بصيغة أخرى .. تنحنح واستنشق ملء رئتيه قبل أن يقول :

” إنه جارنى عمر أفي Gaarane Cumar Afey. “

لم يعلق الأب على نبرة صوته بل قال :

” لقد كبرت يا جارنى .. ما شاء الله .. اجلس يا رجل . “

ثم صفق و نادى على أم جارنى بصوت جهوري .. و كأنه يريد أن يوحي لابنه أن أمامه زمنا حتى يصبح صوته صوت رجل .. و خلال ثوان كانت الأم واقفة أمامهما . ابتسم جارنى واستسلم للحقيقة .. نعم أمامه شوط طويل ليكون له صوت مخيف أجش .. فتنحنح بدون إرادته و مسح بلعومه .

طلب الأب قائلا :

” شاي للرجال يا أم جارنى .. “

 قصد كلمة – رجال- ليسعد ابنه الذي توجه إلى ناحيته حين فرقتهما أمه بدون تأخير .. فقال :

” إن الزمن يجري كغيم الشتاء .. يا للعجب .. متى صرت رجلا ؟ لقد كنت في مهد أمك أمس الأول يا جارنى ؟ آه .. كأن العمر يريد أن يفاجئني دائما . “

و بعد أن مسح لحيته التي تحولت كلها إلي البياض .. أضاف :

” لا بد أن تتعلم يا جارنى .. إن كنت تريد أن تنجح فيما فشل فيه أجدادك رحمهم الله وفشل فيه أبوك . لقد هزمنا يا جارنى بسبب جهلنا .. كنا نجهل أننا جزء من عالم يريد الكفار أن ينتقموا منه . هؤلاء الأحباش ليسوا شيئا يذكر .. ولكن دائما وراءهم كافر أبيض الذين هم أكثر و أقوي منا . لا تستطيع أن تتجنب كيد هؤلاء البيض .. لكي تعرف كيدهم يا بني لا بد أن تتعلم لغتهم .. و من تعلم لغة قوم أمن شرهم . “

شعر جارنى نوعا ما بالفخر و الإعزاز . لقد اعترف العجوز أخيرا أنه رجل إذا .. ماذا بعد ؟

أخذ كوب الشاي الذي وضعته أخته أمامه و هو ساخن دون أن ينتظر أن يبرد كما كان يفعل وهو طفل و رفض كذلك أن يضاف له الحليب .. لأنه رجل و مثل الرجال لا بد أن يشرب شايا أحمرا .. ولكن لم يستطع أن يقرب الكوب إلي شفتيه الناعمتين اللتين لم يفقدا بعد الإحساس بالحرارة .. وبالرغم من أن أصابعه احترقتا إلا أنه أعاد الكوب إلى الصحن بهدوء و لم يرمه . فلما رأى من طرف عينيه أن أباه كان يراقب حركته نهر أخته التي ناولته الشاي و هو يغلي في الكوب .. :

” والله يا بابا سأضرب بناتك المدللات .. ترى إنهن لا يحترمنني . “

 ابتسم الأب و ربت علي كتف ابنه بحنو و افتخار و قال :

” و لكن الرجل يعطف علي المرأة .. أليس كذلك ؟ الآن ماذا تريد مني ؟ “

شعر جارنى أنه محاصر .. كان قد رتب بعض الأسئلة ليطرحها على أبيه .. كان يريد أن لا تفوته أية تفاصيل عما جرى لأعمامه .. لكنه الآن شعر بالارتباك و تبددت أفكاره .. من هم هؤلاء الأحباش الذين سببوا لهم كل هذه المآسي ؟ لقد ارتسمت في ذهنه صورة عن الأحباش .. شعر أنه يكرههم .. سأل :

” لماذا طردونا من بلدنا ؟ لماذا أحرقوا المدينة يا أبي ؟ متى سنرجع إلى قلافو .. دائما أحلم و أنا أسبح في نهر قلافو .  “ 

تذكر جارنى أنه كان في السابعة من عمره حين بدأ القتال في أرض أوغادين . ذاكرته قوية جدا حتى أن أبوه يستغرب حين يذكره بوقائع صغيرة كانت قد حدثت وهو في هذه السن . يتذكر جارنى أن أباه ورجال البلدة كانوا يتحدثون قبل الانفجار عن حرية و عن استقلال الصوماليين و كانوا غاضبين جدا .. يتذكر أن أبوه كان يغيب من البيت أسابيع لا يعرفون أين يذهب و هو لا يقول لأحد متى يعود و لا أين يذهب .

يتذكر جارنى ذلك اليوم الذي دخل أبوهم البيت في جنح الليل و هو يحمل علي كتفه بندقية و كان يسمع من خارج البيت همهمات الرجال الذين كانوا في حراسته .. ويتذكر بوضوح صوت أمه و هي تقول له :

” لماذا لا تخرجنا من المدينة قبل أن .. “

يتذكر و هو يضع يده على فمها لإسكاتها ثم يهمس في أذنها ..

” سيأتيك رجال بعد يومين .. لا تخافي . أرجو أن تسامحيني إذا استشهدت .. اعتني بالأطفال يا مريم . اعتني بالولد .. “

رفع كلتا يديه إلى السماء و تمتم ببعض الأدعية و كان الظلام الدامس وبرودة الجو والدموع الذي يسيل من خديها والخوف من القناصين يزيد الرغبة في التراجع من المضي في قراره .. إنها من اللحظات النادرة التي يجد الواحد نفسه في الحد الفاصل بين الفاني و الباقي و عليه أن يختار اللحظة أيهما .

فلما شعر حراسه في تأخره أنه في موقف صعب و أنه بحاجة إلي من يقف معه في تجاوزه لهذا الاختبار أشاروا لواحد منهم أن يذهب إليه و يسحبه .. فوجده واقفا أمام زوجته التي تسيل الدموع من عيونها فقال موجها كلامه لها :

” .. يا أختي لا نحرر البلد بالدعاء أو البكاء . “

  إنها الكلمات نفسها التي كان يقول عمر لهم فوثب كمن لدغته أفعى .

يتذكر جارنى أن أباه قال قبل أن يختفي في الظلام .. ليكن الله معكم ..

و يتذكر جارنى جيدا أن حياتهم تحولت في اليوم التالي مباشرة إلى جحيم .. إذ ضرب الأحباش حصارا حول البلدة و أدخلوا فيها أفواجا من الجنود لا يعرف حتى الآن كيف يصف قبحهم و لم يرى من قبل و لا من بعد من هم أقبح منهم وكأنهم اختيروا بقبحهم هذا لتخويفهم .. فدخلوا كل بيت في المدينة و لم يتركوا شيئا علي حاله  .

استمر الحصار عدة أيام كان الجنود يعربدون في كل مكان بعد طلوع الشمس .. ويتذكر وجه أمه و مدى فزعها كلما رأت جنديا يمر من أمام البيت وكيف كانت تضمه إليها لتهمس في أذنه بأن يسكت و يحبس أنفاسه .. كانت تضمه بشدة إلى حضنها خوفا من أن يأخذه هذا الجندي .. كان يسمع من أحاديث النساء من أن الأحباش يحبون سرقة أطفال الأوغادين المقاتلين الأشداء لتختلط دمائهم في دماء الأحباش ..

كان الثوار يحكمون المنطقة في الليل و ينسحبون مع الفجر .. يتذكر جارنى أصوات الرصاص التي كانت تبدأ بطلقات مزعجة يتبعها دوي كبير يضيء المنطقة بضوء أزرق ثم يصاحبه أصوات كوقع المطر الغزير .. بكثرة ما يطلق الجانب الحبشي من الرصاص إلى الجهات الأربعة .. عرف فيما بعد أن الثوار كانوا يتعمدون إطلاق الرصاص إلى قلب الجنود الأحباش قبل أن ينسحبوا إلى مكان قريب يرقبون فيه الموقف .. ليعيدوا نفس اللعبة قبل أن يتوقفوا عن القتال عند طلوع الفجر .

     فلما انتهت المدة التي قال أبوهم أن رجالا سيأتون ليأخذوهم إلى مكان أمين و نفذت المؤن في البيت قررت أمهم أن تنضم إلي الأسر التي كانت تهرب إلي خارج البلدة بعد كل غروب .. إذ كان من طبائع جنود الأحباش أن يدخلوا كهوفهم و لا يخرجوا منها إلا بعد شروق الشمس .. مثلهم مثل الحيوانات النهارية . و ذات ليلة حزينة كثيفة السواد تسللت الأسرة بين فرقتين من الجنود و كأنهم يمشون علي حقل أشواك .

مدينة قلافو يقسمها النهر إلى ضفتين الشرقية و الغربية .. الصوماليون يسكنون في الضفة الغربية و كان معسكر الجيش في ناحية الشرق فوق جبل بركاني يطل علي البلدة و الهضبة التي تحته .

لا شك أن الإيطاليين الذين بنوا هذا المعسكر و الجسر الحديدي الذي يربطه بالبلدة اختاروا هذا المكان لذات الغرض الذي استخدمه فيه الأحباش الغزاة بعد عقدين من الزمن إذ أن أي إنسان في داخل البلدة يتمرد أو يحاول الهرب إلى الهضبة يكون على مرمي حجر من المعسكر و من فيه ..

يتذكر جارنى أن الشمس قد أشرقت و هم لم يبتعدوا عن البلدة بمسافة آمنة لأن فيضان النهر في هذه السنة حول الهضبة إلى مستنقع يعوق حركتهم وكانوا يخافون من التماسيح التي ابتلعت فعلا بعض الأطفال .

كان الهول و الفزع في كل مكان .. خوار البقر الهائج و بكاء الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم و أصوات طلقات الرصاص الذي يطلق من الجبل زادت الموقف حرجا .

يتذكر جارنى أنهم كانوا يمشون نحو المرتفعات الجبلية – الحدود الطبيعية التي تفصل بين رعاة الإبل و هم الأوغادينيون و أصحاب الفلاحة وغالبيتهم من أصول زنجية – وعرف فيما بعد أن هؤلاء المزارعين الزنوج – ويسمون ريبار – لا يتملكون أرضا .. إذ أن الأرض تظل دائما ملك الأوغادينيين هكذا قال له أبوه .

في الظروف العادية يصل المرء الذي يقطع الطريق علي قدميه – و عادة لا يوجد في المنطقة ركوبا غير الأرجل – إلى المرتفعات في يوم واحد .. أما هم فقد كانوا يختبئون في الأحراش طوال النهار خوفا من نيران المدافع التي كانت تنهمر من الجبل على رءوس الأطفال و النساء .. و يمشون ببطء في الليل خوفا من التماسيح و الثعابين .. فلما صعدوا إلى الجبال في اليوم الخامس كانوا في حالة سيئة من التعب و الجوع إذ لم يتناولوا أي طعام خلال الأيام الخمسة الماضية غير لقيمات من  عنبولة – ذرة مغلية بالماء – جهزتها أمهم قبل مغادرتهم البلدة . 

يتذكر جارنى أن أمهم بكت فرحا حين وجدتهم كلهم معها إذ أن بعض الأسر فقدت طفلا أو طفلين لا يعرفون إن كانت قد أكلهم التماسيح أو ماتوا برصاص طائش أو مفقودين بأي سبب من الأسباب التي لا تحصى في مثل هذا الموقف ..

صعودهم إلى الجبال كان بمثابة نقطة التحول في حياتهم و بداية جديدة ، خاصة حين أيقنوا إنهم سوف لا يعودون إلى المدينة ، لأنهم شاهدوا اللهب الذي كان يتصاعد منها بعد أيام .. لقد أحرق الأحباش قلافو عقابا لأهلها الذين فروا جميعا بدون علمهم مما يدل على أنهم مع الثوار ..

يقال أن الأم هي التي لا تفارق أولادها في أوقات الشدة وهي التي تحرص في إنقاذ حياتهم ، و حين يهاجر الأب لأداء ما يعتقده أنه أسمى من حياة أبنائه سيجد الأبناء أن أمهم ليس لها في الدنيا شيئا أعظم من حياتهم .         

يتذكر جارنى كيف كانوا تشردوا في الأرض أياما و لم يجدوا مخيما مأهولا ، و لو لا معرفة أمهم لحياة البرية لهلكوا جوعا و ظمأ .. يتذكر جارنى كيف كانت أمهم تعلمهم أنواع الثمار و تقول لهم كلوا من هذا الشجر – إما ثمرته أو أوراقه و امتصوا جذور هذا العشب لترووا ظمأكم – و لا تأكلوا من هذا الشجر .. إنه يسمم  .

هكذا كان أكلهم و شرابهم حتى وصلوا إلى مخيم مأهول في اليوم التاسع ، و تعرفت أمهم على بعض أهل المخيم الذين استقبلوهم بكل الحفاوة . فلما فرغ النساء من مساعدتهم في تشييد بيت لهم من أغصان الشجر و من الأعشاب تهالك جارنى و أخواته تحت ظل الشجر و هم في حالة من الإعياء الشديد .

مكثوا في المخيم إلى أن بدأ – الجيلال -  موسم الجفاف و قلت خيرات الأرض والبهائم ، و عادة لا يستقر أهل البادية في موسم الجيلال في مخيم واحد أكثر من أسبوع بل يستمرون قي السعي وراء ماشيتهم حيث الماء والكلأ .. لا يتكلم أحد مع أحد في الجيلال .. و الكل يقول نفسي .. نفسي .

يتذكر جارنى ما قالته لهم أمهم في ليلة من الليالي :

” يا أبنائي .. جاء موسم الجفاف والناس هنا سيتفرقون و يتنقلون من مكان إلى آخر ولن نستطيع أن نمسك ذيولهم .. “

سكتت و هي تحاول ألا يرى الأولاد دموعها ثم مسحت وجهها و قالت .. 

” .. لا أعرف أين ذهب أبوكم .. غدا سننزل إلى النهر . كان لنا بعض الأصدقاء في قرية اسمها قدحلي . تماسكوا .. كلها ثلاثة أيام إن شاء الله . “

كانت تلك الأيام أصعب أيام مرت في حياتهم . إذ أن الأشجار التي كانوا  يأكلون ثمارها اصفرت ..  و جفت الأعشاب التي كانوا يمتصون السوائل من جذورها .. فلم يبقيهم على قيد الحياة سوى القليل من المؤن التي كانت تحملها أمهم علي ظهرها ..

و لكن كانت مفاجأتهم و خيبة أملهم كبيرة حين وصلوا أمام بوابة القرية .. و أوقفهم شباب مدججين بالسلاح .. فانهاروا و بكوا مستسلمين إذ لا يقدرون على المشي و لو لأمتار قليلة ..

 يتذكر جارنى أن عجوزا كان يمر بالصدفة و تعرف علي أمه كان قد أنقذهم  من أن يردوا على أعقابهم حين صاح في وجوه الشباب الريبار الذين كانوا واقفين أمامهم .. :

” .. أتمنعون بنت أمبو آدم و أنا موجود ؟ أنتم أيها الشباب لا تعرفون أقدار الناس .. اتركوهم قبل أن أرمي بكم جميعا إلى النهر .. “

احتج الشباب و قالوا :

” و لكن يا أمبو أحمد .. أنت تعلم أن المفتشين العسكريين سيأتون إلينا خلال أسبوع .. و لو عرفوا أننا نحمي في القرية الأوغادين سيـنتقمون منا .. “

يتذكر جارنى أن العلم الإثيوبي كان يرفرف علي باب القرية .. فلما سأل أبوه بعد ذلك عن السبب حين تعلم ما هي تلك الأعلام في المدرسة قال له أبوه :

” .. هؤلاء الريبار أبرموا اتفاقية مع الجيش الإثيوبي بأن لا يأووا أي أوغاديني في قريتهم .. و لإظهار ولائهم لسلطة الحكومة رفعوا العلم الإثيوبي في جميع قرى الريبار في شبيلي .. في حين كنا نرفع علم الصومال و أي شيء أزرق في بيوتنا .. “

يتذكر جارنى رد العجوز على الشباب وهو يحمل علي كتفه أخته الصغيرة  :

” حتى لو قطعوا رقبتي .. أنا مسئول عنهم . هيا أمباي مريم . “

فدخلوا القرية سالمين و قام العجوز الذي عرفوه فيما بعد بأنه شيخ القرية بإكرام وفادتهم و استضافهم عنده إظهارا للوفاء لأمهم .. فلما سأل جارنى أمه عن سبب إكرامه لهم قالت :

” جدك آدم رحمه الله كان يعامل شيخ أحمد و كأنه رجل من رجال القبيلة ولم يسمح لأحد بأن يقول له يا عبد  و أعطاه أرضا ليملكها و كان يودعه كل سنة بقرة أو بقرتين ليحلب ألبانها لأولاده .. “

و لكنهم لم يجدوا من سكان القرية نفس معاملة شيخ أحمد الحسنة . بل أذاقوهم أبشع تفرقة عنصرية .. و اضطرت أم جارنى بسبب ما يلاقي ابنها أن تحلق شعره و تعمل كل ما في وسعها لتجعله قبيحا و قذرا  ليشبه أطفال الريبار و لكن بدون جدوى .. إذ لا تستطيع أن تغير شكله من جديد فهذا من شأن ربها .

كان الأطفال  و من هم في سن المراهقة يعاقبون جارنى أشد العقاب كلما يرونه يمشي أو يسبح في النهر و يقولون له – يا ابن الزنى و يا ابن اللعنة – حتى كره أهل القرية و كره شكله وتمنى لو كان زنجيا .

و قرية قدحلي من قرى وادى شبيلي يسكنها الريبار . و هذه القرى و تسمى – جوري – تتكون مما يعادل مائة أو أكثر من مندل – بيت دائري مصنوع من أغصان الشجر والطين مع روث الأبقار – و أهل هذه القرى يعملون في الزراعة فلا يستطيعون العيش خارج قراهم إذ لا يملكون من المال غير ما يأتيهم من الأرض.. عكس الأوغاديني الذين لهم مواشي و لهم أهل في البادية .. و لذلك كل ما تحدث حركة استقلالية و تمرد في المدن و القرى و يفر الأوغاديني إلى البادية يظهر الريبار ولائه للجيش الإثيوبي ليسلم أولا ثم ليستمر في فلاحة أرضه .. و عند الحصاد يأتيه الأوغاديني و معه بقرة أو عدة رؤوس من الغنم لمبادلتها بكيس من محصوله .

يتذكر جارنى أن أهل القرية أوقظوا في صبيحة ذات يوم و هم محاصرون بجنود الحبشة الذين رفضوا أن يخرج منها أحد .. إنه يوم التفتيش و البحث عن أي أوغاديني في القرية .

فماذا تعمل مريم التي خافت على نفسها و على أولادها .. تمنت لو تنشق الأرض من تحتهم و تبتلع كلهم .. ماذا تعمل ؟

هرعت إلى منزل شيخ أحمد لتخبره بالخطر و تسمع منه النصيحة ..

يتذكر جارنى أن الشيخ جاءهم بعد وقت قصير و معه سكين و حلق رءوسهم .. حتى البنات لم يترك لهم بشعرة .. ثم أمرهم أن يدخلوا النهر و يسبحوا مع الأطفال طول ما بقي الجنود في القرية ..

كان ذلك اليوم يوما آخراً لا يستطيع جارنى أن يمحه من ذاكرته . قضوا يومهم بين أعداء ثلاثة .. جنود لا يرحمونهم إن امسكوهم و أطفال عنصريون يمارسون هواية تعذيبهم في الماء و خوف التماسيح التي تبلع أي طفل يشرد من الجماعة ..

فلما رجعوا إلى أمهم في المساء حين غادر الجنود و عرفت آثار التعذيب من احمرار عيونهم و من كثرة بكائهم قررت أن تهاجر إلي الصومال و تنضم إلى قوافل المهاجرين

 

Short URL: http://www.ogadennet.com/?p=83

Posted by on أكتوبر 19 2011. Filed under مقالات. You can follow any responses to this entry through the RSS 2.0. Both comments and pings are currently closed.

Comments are closed

Photo Gallery

تسجيل الدخول | Copyright © 2009 - 2011 ogadennet.com